فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ أكثر القراء {ضعافا} بضم الضاد وهي لغة فيه كالفقر والمكث.
ونقل عن الخليل أن الضعف بالفتح ما في الرأي والعقل وبالضم ما في البدن.
وقرأ أبو جعفر {ضُعَفَاء} جمع ضعيف، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر يكن المسند إلى المائة في الآيتين بالتاء اعتبارًا للتأنيث اللفظي، ووافقهم أبو عمرو ويعقوب في يكن في الآية الثانية لقوة التأنيث بالوصف بصابرة المؤنث وأما {إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ} [الأنفال: 65] فالجميع على التذكير فيه.
نعم روي عن الأعرج أنه قرأ بالتأنيث {الله مَعَ الصابرين} تذييل مقرر لمضمون ما قبله، وفي النظم الكريم صنعة الاحتباك قال في البحر: انظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت قيدًا في الجملة الأولى وهو {صابرون} [الأنفال: 65] وحذف نظيره من الثانية وأثبت قيدًا في الثانية وهو {مّنَ الذين كَفَرُواْ} [الأنفال: 65] وحذفه من الأولى ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ثم ختم الآية بقوله سبحانه: {والله مَعَ الصابرين} مبالغة في شدة المطلوبية ولم يأت في جملتي التخفيف بقيد الكفر اكتفاءً بما قبله انتهى.
وذكر الشهاب أنه بقي عليه ابه سبحانه ذكر في التخفيف بإذن الله وهو قيد لهما وأن قوله تعالى: {والله مَعَ الصابرين} إشارة إلى تأييدهم وأنهم منصورون حتمًا لأن من كان الله تعالى معه لا يغلب، وأنا أقول: لا يبعد أن يكون في قوله تعالى: {والله مَعَ الصابرين} تحريض لهم على الصبر بالإشارة إلى أن أعداءهم إن صبروا كان الله تعالى معهم فأمدهم ونصرهم، وبقي في هذا الكلام الجليل لطائف غير ما ذكر فللَّه تعالى در التنزيل ما أعذب ماء فصاحته وأنضر رونق بلاغته. اهـ.

.قال القاسمي:

{الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
في الآية مسائل:
الأولى: مشروعية الحض على القتال، والمبالغة في الحث عليه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرض أصحابه عند صفهم، ومواجهة العدو، كما قال لهم يوم بدر، حين أقبل المشركون في عددهم وعُددهم: «قوموا إلى الجنة عرضها السموات والأرض»، فقال عمير بن الحمام: عرضها السموات والأرض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم»! فقال: بخٍ بخٍ، فقال: «ما يحملك على قولك بخ بخ»؟ قال: رجاء أن أكون من أهلها. قال: «فإنك من أهلها». فتقدم الرجل، فكسر جفن سيفه، وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن، ثم ألقى بقيتهن من يده، وقال: لئن أنا حييت حتى آكلهن، إنها لحياة طويلة، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.
الثانية: ذهب الأكثرون إلى أن قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفا} شرط في معنى الأمر بوجوب مصابرة الواحد للعشرة أي: بألا يفر منهم.
روى البخاري عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} كتب عليهم ألا يفر واحد من عشرة، ولا عشرون من مائتين، ثم نزلت: {الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ} الآية، فكتب أن لا يفر مائة من مائتين.
وفي رواية أخرى عنه قال: لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} شق ذلك على المسلمين، فنزلت: {الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ} الآية، فلما خفف الله عنهم من العدة، نقص عنهم من الصبر، بقدر ما خفف عنهم.
قال في اللباب: فظاهر هذا أن قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ} ناسخ لما تقدم في الآية الأولى، وكان هذا الأمر يوم بدر، فرض الله سبحانه وتعالى على الرجل الواحد من المسلمين قتال عشرة من الكافرين، فثقل ذلك على المؤمنين، فنزلت: {الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ} أيها المؤمنون {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} يعني في قتال الواحد للعشرة، فإن تكن منكم مائة صابرة محتسبة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله. فرد العشرة إلى الإثنين، فإذا كان المسلمون على قدر النصف من عدوّهم لا يجوز لهم أن يفروا، فأيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر، ومن فرَّ من اثنين فقد فرّ. انتهى.
قال في العناية: وذهب مكي إلى أنها مخففة لا ناسخة، كتخفيف الفطر للمسافر. وثمرة الخلاف أنه لو قاتل واحد عشرة، فقتل، هل يأثم أو لا؟ فعلى الأول يأثم، وعلى الثاني لا يأثم.
وقال الرازي: أنكر أبو مسلم الأصفهاني دعوى النسخ في الآية، وقال: الأمر الذي فهم من الآية مشروط بكون العشرين قادرين على الصبر، أي: إن حصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين، فليشتغلوا بمقاومتهم.
ثم دل قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ} على أن ذلك الشرط غير حاصل منهم، فلم يكن التكليف لازمًا عليهم.
وبالجملة، فالآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص، والثانية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هؤلاء الجماعة، فلم يثبت ذلك الحكم، وعلى هذا فلا نسخ، ولا يقال إن قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ} مشعر بأن هذا التكليف كان متوجهًا عليهم قبله، لأن لفظ التخفيف لا يستلزم الدلالة على حصول التثقيل قبله، لأن عادة العرب الرخصة بمثل هذا الكلام، كقوله تعالى في ترخيصه للحرّ في نكاح الأمَة: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُم} وليس هناك نسخ، وإنما هو إطلاق نكاح الأمة لمن لا يستطيع نكاح الحرائر، فكذا هاهنا.
ومما يدل على عدم النسخ ذكر هذه الآية مقارنة للأولى وجعل الناسخ مقارنًا للمنسوخ، لا يجوز إلا بدليل قاهر.
قال الرازي: بعد تقرير كلام أبي مسلم: إن ثبت إجماع الأمة قبل أبي مسلم على حصول النسخ في الآية، فلا كلام عليه، وإلا فقول أبي مسلم صحيح حسن. انتهى.
الثالثة: في قوله تعالى: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} إشارة إلى علة غلبة المؤمنين عشرة أمثالهم من الكفار، فالظرف متعلق بـ: {يَغْلِبُوا} أي: بسبب أنهم قوم جهلة بالله تعالى واليوم الآخر، لا يقاتلون احتسابًا وامتثالًا لأمر الله تعالى، وإعلاءًا لكلمته، وابتغاءًا لرضوانه، كما يفعله المؤمنون، وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية، واتباع خطوات الشيطان، وإثارة نائرة البغي والعدوان، فلا يستحقون إلا القهر والخذلان. أفاده أبو السعود.
الرابعة: قال الرازي: احتج هشام على قوله: إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند وقوعها، بقوله: {الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} إذ يقتضي أن علمه يضعفهم ما حصل إلا في هذا الوقت.
وأجاب المتكلمون بأن معناه: الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله، وأما قبل ذلك فقد كان الحاصل العمل بأنه سيقع أو سيحدث. انتهى.
وقال الطيبي رحمه الله: معناه الآن خفف الله عنكم لما ظهر متعلق علمه تعالى، أي: كثرتكم الموجبة لضعفكم بعد ظهور قتلكم وقوتكم.
الخامسة: في الضعف لغتان: الفتح والضم، بهما قرئ. وهو يؤكد كونهما بمعنى فيكونان في الرأي والبدن. وقيل: الفتح في الرأي والعقل، الضم في البدن. وهو منقول عن الخليل وقرء: (ضعفاء) بصيغة الجمع.
السادسة: إن قيل: إن كفاية عشرين لمائتين تغني عن كفاية مائة لألف وكفاية مائة لمائتين تغني عن كفاية ألف لألفين، لما تقرر من وجوب ثبات الواحد للعشرة في الأولى، وثبات الواحد للإثنين في الثانية، فما سر هذا التكرير؟
أجيب: بأن سره كون كل عدة بتأييد القليل على الكثير لزيادة التكرير المفيد لزيادة الإطمئنان، والدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة، لا تتفاوت، فإن العشرين قد لا تغلب المائتين، وتغلب المائة الألف، وأما الترتيب في المكرر فعلى ذكر الأقل ثم الأكثر على الترتيب الطبيعي.
قال في الفتح: وقد قيل في سر ذلك: إن بشارة للمسلمين بأن جنود الإسلام سيجاوز عددها العشرات والمئات إلى الألوف.
السابعة: قال في البحر: انظر إلى فصاحة هذا الكلام، حيث أثبت في الشرطية الأولى قيد الصبر، وحذف نظيره من الثانية، وأثبت في الثانية قيد كونهم من الكفرة وحذفه من الأولى، ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه، ثم ختمت بقوله: {وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} مبالغة في شدة المطلوبية، ولم يأت في جملتي التخفيف بقيد الكفر، اكتفاءًا بما قبله.
قال الشهاب: هذا نوع من البديع يسمى الإحتباك، وبقي عليه أنه ذكر في التخفيف {بِإِذْنِ اللّهِ} وهو قيد لهما، وقوله: {وَاللَّهُ معَ الصَّابِرِينَ} إشارة إلى تأييدهم، وأنهم منصورون حتمًا لأن من كان الله معه لا يغلب.
وبقي فيها لطائف، فللّه درّ التنزيل ما أحلى ماء فصاحته! وأنضر رونق بلاغته!. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}
هذه الآية نزلت بعد نزول الآية التي قبلها بمدّة.
قال في الكشاف: وذلك بعد مدّة طويلة.
ولعلّه بعد نزول جميع سورة الأنفال، ولعلّها وضعت في هذا الموضع لأنّها نزلت مفردة غير متّصلة بآيات سورة أخرى، فجعل لها هذا الموضع لأنّه أنسب بها لتكون متّصلة بالآية التي نَسخت هي حكمَها، ولم أر من عيّن زمن نزولها.
ولا شكّ أنّه كان قبل فتح مكّة فهي مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا محضًا لأنّها آية مستقلة.
و{الآن} اسم ظرف للزمان الحاضر.
قيل: أصله أوان بمعنى زمان، ولمّا أريد تعيينه للزمان الحاضر لازَمته لام التعريف بمعنى العهد الحضوري، فصار مع اللام كلمة واحدة ولزمهُ النصب على الظرفية.
وروى الطبري عن ابن عبّاس: كان لكلّ رجل من المسلمين عشرة لا ينبغي أن يفرّ منهم، وكانوا كذلك حتّى أنزل الله: {آلآن خفّف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفًا} الآية، فعبّأ لكلّ رجل من المسلمين رجلين من المشركين، فهذا حكم وجوب نسخ بالتخفيف الآتي، قال ابن عطية: وذهب بعض الناس إلى أنّ ثبوت الواحد للعشرة إنّما كان على جهة ندب المؤمنين إليه ثم حطَّ ذلك حين ثقل عليهم إلى ثبوت الواحد للاثنين.
وروي هذا عن ابن عباس أيضًا.
قلت: وكلام ابن عبّاس المروي عند ابن جرير مناف لهذا القول.
والوقت المستحضر بقوله: {آلآن} هو زمن نزولها.
وهو الوقت الذي علم الله عنده انتهاء الحاجة إلى ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من المشركين، بحيث صارت المصلحة في ثبات الواحد لاثنين، لا أكثر، رفقًا بالمسلمين واستبقاء لعددهم.
فمعنى قوله: {آلآن خفف الله عنكم} أنّ التخفيف المناسب لِيُسْر هذا الدين روعي في هذا الوقت، ولم يراع قبله لمانع منَع من مراعاته فرُجّح إصلاح مجموعهم.
وفي قوله تعالى: {آلآن خفف الله عنكم}.
وقوله: {وعلم أن فيكم ضعفا} دلالة على أنّ ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من المشرمكين كان وجوبًا وعزيمة وليس ندبًا خلافًا لما نقله ابن عَطِية عن بعض العلماء.
ونسب أيضًا إلى ابن عباس كما تقدّم آنفًا، لأنّ المندوب لا يثقل على المكلّفين، ولأنّ إبطال مشروعية المندوب لا يسمّى تخفيفًا، ثم إذا أبطل الندب لزم أن يصير ثبات الواحد للعشرة مباحًا مع أنه تعريض الأنفس للتهلكة.
وجملة: {وعلم أن فيكم ضعفًا} في موضع الحال، أي: خفف الله عنكم وقد علم من قبل أنّ فيكم ضعفًا، فالكلام كالاعتذار على ما في الحكم السابق من المشقّة بأنّها مشقة اقتضاها استصلاح حالهم، وجملة الحال المفتتحة بفعل مضي يغلب اقترانها بـ(قَد).
وجعل المفسّرون موقع و{علم أن فيكم ضعفًا} موقع العطف فنشأ إشكال أنّه يوهم حدوث علم الله تعالى بضعفهم في ذلك الوقت، مع أنّ ضعفهم متحقّق، وتأوّلوا المعنى على أنّه طرأ عليهم ضعف، لما كثر عددهم، وعلمه الله، فخفّف عنهم، وهذا بعيد لأنّ الضعف في حالة القلّة أشدّ.
ويحتمل على هذا المحمل أن يكون الضعفُ حدث فيهم من تكرّر ثبات الجمع القليل منهم للكثير من المشركين، فإنّ تكرر مزاولة العمل الشاقّ تفضي إلى الضجر.
والضعفُ: عدم القدرة على الأعمال الشديدة والشاقّة، ويكون في عموم الجسد وفي بعضه وتنكيره للتنويع، وهو ضعف الرهبة من لقاء العدد الكثير في قلّة، وجعْله مدخول (في) الظرفية يومئ إلى تمكّنه في نفوسهم فلذلك أوجب التخفيف في الكليف.